فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (19):

{وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)}
قوله تعالى: {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. {فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} فذكر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مئل {وَجاءَتْ}. والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم، وكان اسمه- فيما ذكر المفسرون- مالك بن دعر، من العرب العاربة. {فَأَدْلى دَلْوَهُ} أي أرسله، يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا- من ذات الواويدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو، قاله الكوفيون.
وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي، فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع، ودلاء أيضا. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الإسراء من صحيح مسلم: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن».
وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن، فلما رآه مالك بن دعر قال: {يا بُشْرى هذا غُلامٌ} وهذه قراءة أهل المدينة واهل البصرة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ {يا بُشْرى هذا غُلامٌ} فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا. وقرأ أهل الكوفة {يا بُشْرى} غير مضاف، وفي معناه قولان: أحدهما- اسم الغلام، والثاني- معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلى دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام، قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا.
وقال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى. قال النحاس: قول قتادة أولى، لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا، وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا} [الفرقان: 28] وهو أمية بن خلف، قال النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر، وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي.
وقيل: هو كما تقول: وا سروراه! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح، لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى ضمير المتكلم، وعلى هذا يكون {بُشْرى} في موضع نصب، لأنه نداء مضاف، ومعنى النداء هاهنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري، وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك: يا رجلا، وقوله: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ} [يس: 30] ولكنه لم ينون {بشرى} لأنه لا ينصرف. {وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً} الهاء كناية عن يوسف عليه السلام، فأما الواو فكناية عن إخوته.
وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. {بِضاعَةً} نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر، وإنما قالوا هذا خيفة الشركة.
وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب، وذلك أنهم جاءوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك، فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم.
وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل قتلوك، فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد!، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا، فقال: ما تقول يا غلام؟ قال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت بأخلاقهم، فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم، فباعوه منه، فذلك:.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
فيه ست مسائل: الأولى تعالى: {وَشَرَوْهُ} يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة، قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني ** من بعد برد كنت هامه

أي بعت.
وقال آخر:
فلما شراها فاضت العين عبرة ** وفي الصدر حزاز من اللوم حامز

{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي نقص، وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم، أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه.
وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة.
وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم.
وقال قتادة: {بَخْسٍ} ظلم.
وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: {بَخْسٍ} حرام.
وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة، لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستقيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه، وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا، أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله. قلت: قوله وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك، فدل على صحة ما قاله السدي وغيره، لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه.
وقال عكرمة والشعبي: قليل.
وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة، وقاله قتادة والسدي.
وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين، وقاله مجاهد.
وقال عكرمة: أربعين درهما، وما روي عن الصحابة أولى. و{بَخْسٍ} من نعت {بِثَمَنٍ}. {دَراهِمَ} على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور، لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ** نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

{مَعْدُودَةٍ} نعت، وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن.
وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن، لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.
الثانية: قال القاضي ابن العربي: واصل النقدين الوزن، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى». والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار، فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن، حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان، فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم.
الثالثة: واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها، ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شي، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.
الرابعة: روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} وقد مضى، القول فيه.
الخامسة: قوله تعالى: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قيل: المراد إخوته.
وقيل: السيارة.
وقيل: الواردة، وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة، لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا- والزهد قلة الرغبة- ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى.
السادسة: في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما، ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله وقيل: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي في حسنه، لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له.
وقيل: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ} قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال، أذا لم يكن ذلك عقدا، مثل: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} [البقرة: 16].
وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السهيلي: واسمه قطفير.
وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل، ذكره الماوردي.
وقيل: كان اسمها زليخاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله، ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره.
وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد.
وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة.
وقيل: هو فرعون موسى، لقول موسى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} [غافر: 34] وأنه عاش أربعمائة سنة.
وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في غافر بيانه. وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك، واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين.
وقيل: اشتراه من أهل الرفقة.
وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلي وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن، قاله وهب بن منبه.
وقال وهب أيضا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني، قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه- وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود- فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا، فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا، فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون، فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني، فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف! غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء! أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل، فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا، فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثا؟- فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا- فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا، فقال له: ما أردت إلا هلاكنا! ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام! لقد لطمك فجاءنا ما رأيت، فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك، قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني، فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك، قاله ابن عباس على ما تقدم.
وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض، فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى. {أَكْرِمِي مَثْواهُ} أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن، وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به، وقد تقدم في آل عمران وغيره. {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني، وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في الأحزاب إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة، العزيز حين تفرس في يوسف فقال: {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر! والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة الحجر وليس كذلك فيما نقلوه، لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة، وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في القصص. وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة، لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} الكاف في موضع نصب، أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له، أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ}.
وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} الهاء راجعة إلى الله تعالى، أي لا يغلب الله شي، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون.
وقيل: ترجع إلى يوسف، أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يطلعون على غيبه.
وقيل: المراد بالأكثر الجميع، لان أحدا لا يعلم الغيب.
وقيل: هو مجرى على ظاهره، إذ قد يطلع من يريد على بعض غيبه.
وقيل: المعنى {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: {يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: {إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ} [يوسف: 97] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 18] ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} [يوسف: 29]، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين.